يتميز كتاب « ظلال النخيل » الصادر عن جمعية الشابي للتنمية الثقافية والاجتماعية، بتضمنه لمجموعة من النصوص والأشعار لأبي القاسم الشابي ولثمانية وعشرين رسالة بعثها الشابي لأصدقائه أو تلقاها منهم وهي رسائل نشرت لأول مرة في هذا الكتاب الصادر منذ نحو سنتين في 254 صفحة في طبعة أنيقة ومحدودة النسخ، والذي من المنتظر أن يصدر في الفترة القليلة القادمة في طبعة جديدة عن إحدى أهم دور النشر العربية وفق ما أكده مصدر لـ »وات ».
وقد صدر هذا الكتاب بعد مُضيّ ستّ وثمانين سنة على وفاة الشاعر الشّابي، وبفضله ينبعث صوته من جديد حيّا، بعد أن ساد الاعتقاد بأنّ مدوّنتَه قد اكتملت وأنّ الدّراسات حول أثره قد استنفدتْ كلّ طاقاتها وممكناتها، ليُضيف إلى مدوّنتِه المتكوّنة من خمسة آثار، أثرا سادسا غنيّا بالجديد شعرا موزونا ومنثورا ورسائل ومقالات، وفق ما بينه الدكتور علي الشابي الذي تولى تحقيق مضمون الكتاب ووضع تقديمه وكشف « ظروف الاهتداء إلى هذا الجديد من أدب الشّابي ».
وورد الكتاب في ثلاثة أبواب ومُلحق به صور ووثائق ونصوص تمّ نشرها سابقا في كتب أخرى لا تخصّ الشّاعر مباشرة. كما تضمن عدة صور أصليّة للورقات التي احتوت النّصوص الجديدة التي ضمّها الأثر.
وخصص الباب الأول للنصوص الشّعريّة وقد تمّ تقسيمه إلى جزأين يتعلق الأول بالأشعار التي تُنشر لأوّل مرّة بالاستناد إلى الرّواية (في توزر والمشروحة بالجزائر) وهي مقطوعات وأبيات مفردة، والأشعار التي تنشر لأوّل مرّة وهي مأخوذة من وثائقه وعددها 31 نصّا ومقطوعة.
أما الباب الثاني فيتعلق بالنثر وتم تقسيمه أيضا إلى قسمين، أحدهما للمقالات والخواطر الأدبيّة (وعددها سبعة) والآخر للقوْل الشّعريّ وعدد نصوصه 15 نصّا متفاوتة الطّول ومتنوّعة المضامين.
ويضم الباب الثالث الرّسائل التي بعثها الشّاعر أو تلقّاها، وكلّها تنشر لأوّل مرّة أيضا، وهي سبعة رسائل بعث بها الشّابي إلى محمّد صالح المهيدي وعبد السّلام الشّابي (رسالتان) ومدير مجلّة المقتطف وعبد الخالق البشروش والشّيخ إبراهيم الآجري وعمر إسكندر. أمّا الرّسائل التّي تلقّاها الشّابي فعددها عشرون، نصفُها من مصطفى خريّف، وأربع رسائل من أحمد زكي أبي شادي وثلاث رسائل من البشروش ورسالة من حسن حسني عبد الوهّاب وأخرى من صالح بن علي العلوي وأخيرة من الشّاذلي عطا الله.
« نصوص تكشف عن جوانب متعددة من شخصية الشابي »
وأوضح مدقق الكتاب أن ما تتميّز به هذه النّصوص الجديدة التي ضمّها الإصدار « أنّها تعكس من جهةٍ روح الشّابي الموزّعة بين الحكمة والتأمّل والطّبيعة والرّثاء وأشواق الصّوفيّة والرومنطيقييّن، وتكشف من جهة أخرى عن ملامح بوادر تحوّل في الأسلوب وفي المضمون كان الشّاعر يتهيّأ له ويمضي إليه بوعي لولا أنّ الموت باغتَه ». كما تكشف هذه النصوص، وفق المصدر ذاته، « عن بعديْن متعانقين في كتابة الشّاعر: البعد الذّاتي الذي يلتفتُ إلى معاناة الشّاعر بسبب الظّروف الصحّية والاجتماعيّة التي نعرفها جميعا، والبعد الوطنيّ الموضوعي الذي يُظهر لنا روحا معاكسة لما يظهر لنا من النّصوص الذّاتيّة التي يطغى علينا النّفس التّشاؤميّ المحبَط والمتبرّم من الحياة والنّاس… ».
ويقول المحقق الدكتور علي الشابي عن بعض النصوص إنّ الشّاعر أهمل نشرَها حين جمع ديوانَه، أو قد يكون ضيّعها، وربّما يكون كتبها بعد أن جمع ديوانه وأعدّه للطّبع. وأشار إلى أن الكتاب يتضمن عديد المراثي الجديدة التي تؤكّد طبيعة الشّاعر المتأثّرة بفقد الوالد في سنّ مبكّرة.
ومن التّفاصيل التي تكشفها النصوص الجديدة عن حياة الشّاعر الشّخصيّة، أسباب اضطراره إلى ترك إخوته في العاصمة في أثناء الفترات الطّويلة التي كان يقضّيها في الاستجمام في عين دراهم أو في المشروحة، وقد أشار إلى ذلك مصطفى خريّف في رسائله له في سياق التّعبير عن شوقه الكبير إليه .
ويتضمن الكتاب كذلك عدة نصوص كثيرة تؤكّد ما عرف عن وطنيّة الشّاعر وحماسته للمقاومة وحرصه على إثارة الحميّة في الشّعب، ولكنّ أغلب هذه النّصوص تعكس حالة من الإحباط واليأس التي تتحوّل إلى ثورة على الشّعب الخانع المستسلم. إلى جانب تضمنه للكثير من المواقف التّي تؤكد غربة الشّاعر في واقعه، وخاصّة في الرّسائل التي بعث بها أو تلقّاها، من ذلك ما تضمنته رسائل مصطفى خريّف الذي يصوّر الكثير من الحالات التي تكشف معاناة الشّاعر والأديب، في تونس وفي مصر، حين تحدّث عن وضعيّة الحدّاد أو العقّاد وغيرهما.
وتضمن الكتاب أيضا نصوصا تؤكد ميل الشّابي إلى كتابة نصوص تأمّلية ساخرة من أوهام الإنسان وغفلته أو من عجزه، وأخرى تعكس جوانب من الحياة الفكريّة والثّقافيّة والنّقديّة في تلك الفترة (أواخر عشرينات القرن الماضي ومطلع الثلاثينات). ويقول الذكتور علي الشابي في تقديمه للإصدار « ولعلّ أهمّ هذه النّصوص النصّ الذي شرع الشّابي في كتابته ردّا على صاحب جريدة النّديم التي كانت تناصب الجيل الجديد من الشّعراء، والشّابي والحدّاد من أهمّ رموز هذا الجيل ».
الرّسائل في « ظلال النّخيل »
ويكتسي هذا الكتاب أهمية بالغة كذلك لاحتوائه على ثمانية وعشرين رسالة من الشّاعر وإليه. وتعتبر هذه الرّسائل مصادر جديدة تنضاف إلى الرّسال المعروفة الصّادرة في الأعمال الكاملة، لتعرّف طبيعة الحياة الفكريّة والثّقافيّة والأدبيّة بالبلاد التّونسيّة في عشرينات القرن الماضي ومطلع ثلاثيناته. كما تعتبر مرجعا أساسيّا لتبيّن التحوّلات التي عرفها الشّاعر في السّنوات الأخيرة من حياته، والتي تغلب عليها مظاهر الإحباط بسبب اشتداد المرض عليه وبسبب تعثّر مشروع نشر ديوانه خاصّة، وفق علي الشابي.
وفي هذه الرسائل الكثير من الأحاديث التّي تعكس الحيويّة التي كانت تشهدها الحياة الأدبيّة والفكريّة في تونس آنذاك، كما فيها جوانب من طبيعة العلاقات بين الأدباء والشّعراء ولعلّ من أهمّها رسائل مصطفى خريّف وردود الشّابي التي تظهر المكانة الكبيرة التّي كان يحتلّها الشّابي عند زملائه من الشّعراء المعاصرين له، إضافة إلى ما تظهره من الحسّ النّقديّ والإبداعيّ اللذين يتجلّيان من خلال الآراء المتبادلة بينهما.
ويؤكد محقق الأثر على القيمة الكبيرة لهذه الرّسائل « فهي، إضافة إلى كونها مرآة للذّات المبدعة عند كلا المترسّلين، فإنّها تعتبر وثيقة مهمّة تصوّر جوانب من الوضع الثّقافيّ بتونس ومصر. فمن خلال تبادل الآراء حول المستجدّات الثقافيّة والأدبيّة في البلدين، مع التّركيز على ما يلاقيه المثقّفون والأدباء الملتزمون من تضييقات ».