تحقيق- سعيد عكروت لإذاعة تطاوين
بعد رحلة سفر دامت لأكثر من سبع ساعات قادمة من ولاية تطاوين (530 كلم جنوب العاصمة تونس)، لم تجد « ريم » (اسم مستعار)* مبيتا تقصده اثر وصولها وحيدة في وقت متأخر إلى مستشفى صالح عزيز المختص في الأورام السرطانية، ما اضطرها لقضاء ليلتها وحيدة على كرسي بحديقة المستشفى، في انتظار طلوع الصبح ولقاء الطبيب لتشرح له معاناتها مع سرطان الثدي.
اضطرت ريم أن تقطع كل تلك المسافة، نظرا لغياب التجهيزات الصحية اللازمة والإطار البشري المتخصص في ولايتها، مما جعلها تتكبد عناء السفر الطويل إضافة إلى عناء المرض. وهي ليست الوحيدة في هذه الوضعية، حيث أن مثيلاتها كثر ممن أصبن بسرطان الثدي وطالهن إهمال الدولة وقسوة المجتمع.
يُوثّق هذا التحقيق معاناة نساء أرهقتهن رحلة البحث عن علاج لمرض سرطان الثدي نتيجة غياب التجهيزات الصحية والإطار البشري المتخصص في ولاية تطاوين، فضلا عن نظرة المجتمع المحافظة تجاه جسد المرأة، مما يمنعهن من التمتع بالرعاية الصحية اللازمة ويتسبب في تعكر حالاتهن ووفاة بعضهن.
« نصف امرأة..! «
ريم امرأة ثلاثينية، مطلقة، تقطن عائلتها بمدينة تطاوين، أصيبت بسرطان الثدي، فاستؤصل أحد ثدييها منذ بلوغها سن 16، لتكون تلك محطتها الأولى في « رحلة المعاناة والصدام مع المجتمع ». حين علم خطيبها في ذلك الوقت بإصابتها بالسرطان، اشترط للبقاء معها، إخفائها خبر مرضها عن الجميع خوفا من نظرة المجتمع، فاختارت الانفصال عنه ومواجهة الحياة بشجاعة وكبرياء. تزوجت لاحقا برجل آخر وأنجبت منه ابنها الوحيد، إلا أن علاقتها مع زوجها اهتزت وانتهت بالطلاق بسبب تعنيفه لها ومعايرتها بالمرض والاستهزاء بجسدها. « كان يقول لي أنت نصف امرأة! »، تتذكر ريم بحسرة.
في معهد صالح عزيّز، في أحد أيام سنة 2018 ، لم تكن أحلام » (اسم مستعار أيضا)* وهي امرأة أربعينية، أصيلة ولاية تطاوين، تعلم أن زيارتها للمستشفى ستكون الأولى في رحلة علاج طويلة وشاقة من مرض سرطان الثدي. جاءت إلى هذا المستشفى بعد أن طلب منها طبيبها في مدينتها الأصلية أن تُجري فحوصات إضافية، دون أن يعطيها أكثر تفاصيل. وصلت إلى العاصمة بعد رحلة شاقة اعتاد كل القادمين من تطاوين القيام بها، وتركت أطفالها الثلاثة وزوجها ومدينتها التي تفتقر إلى مراكز العلاج المختصة، لتكتشف إصابتها بسرطان الثدي. « لم أتحمّل الصدمة وأُغمي عليّ مباشرة »، تقول أحلام.
سوسن بن سالم، أصيلة تطاوين وناشطة في المجتمع المدني، عاشت مع والدتها التي أصيبت بمرض سرطان الثدي وتوفيت به في سن 52 سنة، تجربة رحلة العلاج المضنية التي » بدأت بانعدام الخدمات الصحية في تطاوين، مرورا بمشقة التنقل إلى ولايات أخرى للتداوي، وصولا إلى كلفة العلاج المرتفعة، أمام الإهمال المتواصل للدولة للقطاع الصحي، خاصة في الجهات الداخلية للبلاد وولايات الجنوب. » وقد عصف مرض السرطان أيضا بحياة أخيها وهو في سن 27 سنة بسبب هذا التقصير.
غياب أرقام مُحيّنة حول الإصابات بسرطان الثدي في تطاوين
سجلت تونس 3300 إصابة بسرطان الثدي سنة 2019 ليحتل هذا السرطان المركز الأول بنسبة 30 بالمائة من مجموع السرطانات التي تصاب بها المرأة في تونس، حسب تصريح وزير الصحة فوزي المهدي، يوم 19 أكتوبر 2020 خلال ملتقى بمقر منظمة الصحة العالمية بتونس حول « دور الخطوط الأولى للصحة في مكافحة سرطان الثدي في ظل جائحة كورونا ».
وحسب ممثل منظمة الصحة العالمية في تونس، إيف سوتيران، فإن سرطان الثدي يأتي في المرتبة الأولى من مجموع السرطانات عند النساء في تونس، كما أنّ 60 بالمائة من النساء اللاتي أصبن به تفوق أعمارهن 50 عاما. وذكّر بأن هناك أكثر من 1.4 مليون امرأة في العالم تصاب سنويا بسرطان الثدي، فيما يصل عدد الوفيات إلى 458 ألف وفاة.
وتُسجّل تونس سنويا حوالي 2800 إصابة جديدة بسرطان الثدي وهو ما يمثل 30 بالمائة من إجمالي الإصابات بالسرطان عموما، بحسب رئيس الجمعية التونسية لرعاية مرضى سرطان الثدي، الدكتور خالد الرحال. وتشير تقديرات الجمعية إلى أن عدد الإصابات سيصل إلى 3700 سنة 2024.
من جهتها، تُبيّن الوكالة الدولية لبحوث السرطان التابعة لمنظمة الصحة العالمية أن تونس سجلت 15894 حالة إصابة جديدة بمرض السرطان سنة 2018 من بينها 2305 بسرطان الثدي (أي 14 بالمائة)، أما عدد الوفيات الناجمة عن السرطان في تونس فتقدر ب 10092 حالة وفاة بحسب تقرير سنة 2018.
وعلى الرغم من مرور 12 سنة عن صدور الأمر عدد 846 لسنة 2008 بالرائد الرسمي والمتعلق بإنشاء سجل وطني للسرطان بهدف تتبع ومراقبة المرض ومدى انتشاره وتقييم طرق التعهد به، فإن هذا السجل غير موجود فعليا إلى حد الآن. وهو ما أكدته رئيسة جمعية مرضى السرطان، روضة زروق، قائلة: « لا يوجد سجل لمرضى السرطان في تونس وهو ما يعني غياب خطة وطنية لمواجهة المرض، طالما لا تستطيع الدولة حصر أعداد المصابين بشكل دقيق ».
حاول معد التحقيق الحصول على إحصائيات حول مرضى السرطان بجهة تطاوين، فكانت إجابة مدير الصحة الأساسية بالإدارة الجهوية بتطاوين، عمر بوعون، أن « لا وجود لقاعدة بيانات محينة على المستوى الجهوي خاصة بمرضى السرطان وبعدد الوفيات نتيجة المرض ». وقد برّر ذلك بعوامل عدة أهمها غياب منظومة الكترونية خاصة بمرضى السرطان، إلى جانب عدم توفر مراكز لتشخيص وعلاج المرضى بالجهة، مما يدفعهم إلى التنقل خارج الولاية لتلقي العلاج، إما في مؤسسات القطاع العام على غرار تونس العاصمة أو في مؤسسات القطاع الخاص. بالتالي، يصبح من الصعب الوصول إلى إحصائيات مضبوطة. ويزداد الوضع تعقيدا عند إحصاء عدد المرضى بالسرطان الذين يعالجون في القطاع الخاص، بسبب عدم انخراط القطاع الخاص في برامج الإحصائيات الوطنية وخاصة في منظومتي التقصي والإبلاغ عن الحالات. بالتالي، فإن « الطبيب في القطاع الخاص غير ملزم قانونيا بالإبلاغ عن حالات السرطان ».
من جهتها تقرّ سمية المنصوري، المسؤولة عن البرنامج الوطني لمكافحة السرطان، بوزارة الصحة، بوجود سجلات إقليمية (شمال/ وسط/ جنوب) تأخّر تحيينها لأسباب تقنية وإدارية، « وحاليا تعمل وزارة الصحة على تدارك هذه النقائص من أجل استصدار السجلات الإقليمية الثلاثة إلى حدود سنتي 2014 و 2015″.
في المقابل، أظهر استبيان قامت به جمعية رحمة لمرضى السرطان بتطاوين، بالتعاون مع البنك الدولي سنة 2015، إصابة أكثر من 400 امرأة بمرض سرطان الثدي وعنق الرحم من مجموع 10 آلاف امرأة شملها الاستبيان، وفق ما أكده رئيس الجمعية الطاهر صفيفير.
بُعد المراكز الإستشفائية العمومية يعقّد عملية الحصول على العلاج
في ولاية تطاوين التي تعد بحسب التعداد السكاني لسنة 2014 حوالي 150 ألف نسمة، أكثر من نصفهم من الإناث (78544 ألف) يعاني المواطنون من بعد المراكز الاستشفائية العمومية. فقد أظهرت دراسة مشتركة أنجزت سنة 2018 من طرف منظمة إنترناشونال ألرت في تونس (International Alert Tunisie) بالتعاون مع جمعيات تونسية ناشطة في مجال الدفاع عن الحق في الصحة، أنه من أهم التحديات التي تواجه سكان ولاية تطاوين المصنفة الأولى من حيث المساحة على المستوى الوطني بنسبة 25 % من مجموع مساحة البلاد (38889 كلم مربع)، هو بعد مسافة المؤسسات الصحية، ما يجعل متوسط المسافة للوصول إلى المستشفى الجهوي الوحيد من طرف السكان بالجهة، 59 كلم وهو الأعلى في البلاد . كما يصل متوسط المسافة التي يقطعها المواطن كي يصل إلى أقرب مستشفى جامعي، إلى 307 كلم. وقد تم احتساب متوسط المسافة انطلاقا من مركز المدينة وأبعد منطقة سكانية وهي معتمدية ذهيبة التي تبعد على مركز الولاية حوالي 120 كلم.
- هذا الجدول تم إعداده انطلاقا من معطيات دراسة منظمة إنترناشونال ألرت والخارطة الصحية لسنة 2015
نقص أطباء الاختصاص والتجهيزات الطبية
عدا بعد المسافة وما يتكبده السكان من مشقة للوصول إلى المراكز الإستشفائية العمومية، فإن هذه الأخيرة تفتقر إلى الكثير من الخدمات الصحية التي يحتاجها المواطن. فعلى سبيل المثال، يعدّ المستشفى الجهوي بتطاوين الأكثر افتقارا للإطار الطبي المختص النشط بين المستشفيات الجهوية بمراكز الولايات، حيث سجّل معدل تطور عدد أطباء الاختصاص في الجهة تراجعا بنسبة 25 بالمائة خلال سنوات (2018/2017/2016) ليستقر عند حدود تسعة أطباء فقط سنة 2018 من جملة 3231 طبيب مختص نشط على المستوى الوطني، بحسب الخارطة الصحية لوزارة الصحة لسنة 2018.
هناك أيضا نقص فادح على مستوى التجهيزات الطبية، إذ تشير الخارطة الصحية إلى الانعدام الكلي للأجهزة الطبية الخاصة بالعلاج الإشعاعي والكيميائي لمرضى السرطان في مراكز الصحة في تطاوين، بالإضافة إلى أجهزة الفحص الإشعاعي لسرطان الثدي « ماموغرافي ». كل هذا يدفع بالمرضى إلى التوجه إلى جهات أخرى من أجل طلب العلاج
المصدر: وزارة الصحة الخارطة الصحية لسنة 2018
تؤكد سمية ذكار، عضو النقابة الأساسية للصحة بالمستشفى الجهوي بتطاوين، النقص الحاد في جميع أطباء الاختصاص والأجهزة الطبية للكشف وعلاج مرضى السرطان وتحديدا سرطان الثدي، علاوة على عدم توفر الأدوية الخاصة بهم، مما « يجعل علاجهم غير ممكن »، وهو ما يدفع أغلب المريضات إلى عدم زيارة المستشفى الجهوي أصلا، خاصة بعد اكتشاف المرض. أما » اللاتي يزرن المستشفى ولم يعلمن بعد إصابتهن، فسبيلهن الوحيد لتشخيص الإصابة هو قسم العيادات الخارجية الذي يوجههن إلى مستشفيات أخرى خارج الولاية ». وتضيف أن المستشفى يفتقر إلى أقسام رئيسية مثل الأمراض السرطانية والنفسية وكذلك أقسام القلب والشرايين والعيون…الخ ). لذلك فقد وجهت سمية نداء استغاثة لوزارة الصحة للعمل على توفير طب الاختصاص الذي يمثل العقبة الأولى لا فقط أمام مرضى سرطان الثدي وإنما أمام جميع المرضى. « فطالما يغيب طب الاختصاص لا مجال للحديث لا عن وقاية ولا عن علاج ».
من جهته، أشار الدكتور خالد الرحال رئيس الجمعية التونسية لرعاية مرضى سرطان الثدي، إلى توفر 4 أقسام فقط للعلاج بالأشعة في تونس لفائدة مرضى سرطان الثدي، وهي تونس الكبرى، سوسة، صفاقس، جندوبة، في حين لا وجود لها بإقليمي الجنوب الشرقي والغربي للبلاد. وبيّن كذلك أن أقسام العلاج الكيميائي موجودة فقط في 4 مناطق في الجمهورية وهي تونس، سوسة، صفاقس وقابس، مع وجود عيادات خارجية في بعض الجهات » لا ترقى لدرجة أقسام، بسبب افتقارها إما للإطار الطبي أو للتجهيزات الضرورية اللازمة »، مضيفا أن « جل المستشفيات في تونس تنقصها آلة التصوير الإشعاعي، وحتى إن وجدت، فلا فائدة منها في ظل غياب الإطار الطبي المختص ».
حاول معد التحقيق فهم أسباب عدم توفر الأطباء المختصين في الأمراض السرطانية وغياب التجهيزات الطبية، من خلال الاتصال بالمدير العام للهياكل الصحية العمومية بوزارة الصحة، محمد مقداد. لكن هذا الأخير اعتذر عن تقديم أية إيضاحات بخصوص هذه المسألة أو غيرها بسبب توصيات من الوزارة بعدم التصريح لوسائل الإعلام.
ويمكن تفسير النقص الحاصل في أطباء الاختصاص بتزايد ظاهرة هجرة الأطباء خلال السنوات الأخيرة في تونس، فقد هاجر على سبيل المثال إلى فرنسا ودول الخليج أكثر من 700 طبيب سنتي 2017 و2018 بحسب تصريح إعلامي سابق لوزير الصحة الأسبق عبد الرؤوف الشريف أواخر شهر ديسمبر من سنة 2018. أضف إلى ذلك ما كشف عنه تقرير صادر عن منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية سنة 2018، بأن عدد الكوادر الطبية من التونسيين العاملين في دول الاتحاد الأوروبي بلغ 3200 طبيب و1600 ممرض سنة 2016 . في المقابل، التجأت تونس سنة 2019 إلى توقيع بروتوكول تعاون مع الصين يتعلق بإرسال فرق طبية صينية إلى عدد من المناطق الداخلية بهدف تغطية النقص الفادح في الكوادر الطبية بهذه المناطق.وفي هذا السياق، أشار رئيس الحكومة، هشام المشيشي، خلال اجتماع اللجان الفنية المختصة في مكافحة فيروس كورونا يوم 10 سبتمبر 2020 أن قطاع الصحة « لا يزال يشكو عدة نقائص سواء على مستوى الإمكانيات المادية أو على مستوى الموارد البشرية »، وتعرّض إلى مسألة نقص أطباء الاختصاص وظاهرة هجرة الأطباء وانعكاس ذلك على غلق بعض مراكز الاستشفاء، معتبرا أنه « من غير المقبول أن تتواصل هذه الوضعية ».
عدم توفر التغطية الصحية مشكلة تؤرق النساء المصابات
تشكو العديد من مريضات سرطان الثدي من غياب نظام تغطية صحية يضمن لهن تلقي العلاج.أمنة (39 سنة)، أصيلة تطاوين، مصابة بسرطان الثدي ومعطلة عن العمل، تواجه صعوبات كبيرة في اقتناء الدواء، إذ لا تشملها صيغ التكفل بالمرضى التي حددها الصندوق الوطني للتأمين على المرض، وهي المنظومة العلاجية العمومية والمنظومة العلاجية الخاصة ومنظومة استرجاع المصاريف. وإنما تشملها صيغ التكفل بالمرضى التي حددتها وزارة الشؤون الاجتماعية والخاصة بأصحاب بطاقات العلاج المجانية والبطاقات ذات التعريفة المنخفضة. ورغم حاجتها الاجتماعية وما تعانيه من بطالة، لم تتحصل على بطاقة علاج مجانية إلا بعد أكثر سنة من إصابتها بالمرض « بسبب البيروقراطية الإدارية »، كما وصفت ذلك، وهو ما سبّب لها مشاكل عدة، أهمها عدم تمكنها من اقتناء الدواء في عديد المرات. تقول آمنة بحزن: « لا شيء يرهقني أكثر من التفكير في كيفية الحصول على المال من أجل اقتناء الدواء والقيام بالتحاليل. لن أنسى أبدا يوم اتجهت لإدارة الشؤون الاجتماعية بالجهة طلبا لمنحة قارة من أجل مساعدتي على تغطية نفقات العلاج، فكان رد الموظف: انتظري إلى أن يتوفى مستفيد آخر حتى تحصلي على منحة قارة ».
آمنة ليست الوحيدة في هذه الوضعية، فريم هي الأخرى عانت من غياب التأمين الصحي، حيث تقول » كان عليّ أن أوفّر مبالغ مالية باهظة للعلاج طيلة 12 سنة من المعاناة مع المرض، بسبب عدم حيازتي لبطاقة علاج مجانية رغم محدودية دخلي… 12 سنة بتمامها وكمالها لم تكن كفيلة بأن يتفطن أحد لأحقيتي لهذه البطاقة التي تحصلت عليها أخيرا، ولازلت إلى الآن أتكفل بالجانب الأكبر من مصاريف المتابعة الصحية والتحاليل الطبية. »
حسب رئيس الجمعية التونسية للدفاع عن الحق في الصحة، الدكتور بلقاسم صبري، يعيش حوالي 2 مليون تونسي، من مجموع 11،57 مليون (حسب تعداد 2018)، دون تغطية اجتماعية وصحية. وهو ما تؤكده أيضا دراسة أنجزها مركز البحوث والدراسات الاجتماعية بوزارة الشؤون الاجتماعية نشرت سنة 2019، حيث جاء فيها أن 17.2 بالمائة من التونسيين لا تشملهم التغطية الصحية والاجتماعية.
ضياع الملفات الطبية والتعرض للابتزاز
لا تقتصر معاناة مرضى السرطان على نقص الأجهزة والأطباء وغياب التغطية الاجتماعية، وإنما تشمل أيضا ضياع ملفاتهم الطبية. في هذا الصدد، تقول روضة زروق، رئيسة جمعية مرضى السرطان، أن « هناك عاملين في المستشفيات، يتاجرون بضياع ملفات المرضى من خلال طلب المال منهم وابتزازهم مقابل إيجادها ». هذا ما حصل مع ريم التي قالت أنها اضطرت لدفع رشوة بقيمة 60 دينار من أجل أن تحصل على ملفها الصحي الذي ضاع أكثر من مرة في مستشفى صالح عزيز وهو ما أعاق عملية متابعة حالتها الصحية وتأخير في مواعيد علاجها.
في ردها على مسألة الرشوة، بيّنت نجوى الطرابلسي، مديرة مستشفى صالح عزيز، أنها سمعت عن هذه الظاهرة و »لكن إدارة المستشفى لا يمكن لها اتهام أي عون صحة في غياب إثباتات ومؤيدات ». وطالبت أي مريض يقع ابتزازه أو طلب الرشوة منه في المستشفى، بالتبليغ الفوري للإدارة وتقديم شكوى من أجل وقف مثل هذه الممارسات، مؤكدة أن « الإدارة ستُسلّط أشد العقوبات على كل من يثبت تجاوزه للقانون ». كما ذكّرت أيضا بمجهودات إدارة المستشفى للحد من مشكل ضياع الملفات « التي تقلصت بشكل كبير بعد اعتماد سجل رقمي لها، حيث تم تخزين حوالي 40 ألف ملف. »
مسألة تأخير مواعيد العلاج، معضلة أخرى تعترض مرضى سرطان الثدي، فأحلام مثلا ذكرت أن الطبيب حدد لها ذات مرة موعدا بعد ستة أشهر لتقوم بصورة إشعاعية، وعندما ذهبت إلى المستشفى قيل لها انه يجب أن تنتظر ستة أشهر أخرى، ليكون المجموع سنة كاملة!
أرجعت مديرة مستشفى صالح عزيز هذا التأخير في المواعيد إلى الاكتظاظ، معتبرة أن عدد المرضى الذين يستقبلهم المستشفى يتراوح ما بين 600 و 700 مريض يوميا، وهو ما ينعكس أيضا على نوعية الخدمات الصحية المقدمة، « مما قد يضطرنا أحيانا إلى تأخير المواعيد ».
التعرض للتحرش الجنسي
علاوة على كل الصعوبات المذكورة سابقا، تتعرض مريضات سرطان الثدي إلى التحرش الجنسي وحتى إلى الاغتصاب عند زيارة المستشفى للتداوي.
« لن أنسى تلك الحادثة مادمت حية »، هكذا عبّرت أحلام وفي عينيها مزيج من المرارة والألم، وهي تروي تفاصيل تعرضها للتحرش في نفس اليوم الذي علمت فيه بإصابتها بسرطان الثدي. في سنة 2018، مباشرة بعد أن استفاقت من إغمائها بسبب هول صدمة معرفتها بخبر إصابتها بالمرض، حاول أحد الممرضين بمستشفى صالح عزيز استغلال وضعها. « اقترب مني كثيرا وأراد أن يلمس جسدي بحركات ذات إيحاءات جنسية، فقمت بصده، ولكنه واصل تماديه في محاولاته وطلب مني أن أصحبه إلى الحمام ». كانت هذه الصدمة أشد وطأة عليها من تلك التي تلقتها خلال اكتشافها لإصابتها بالسرطان.
ريم لم تسلم هي أيضا من التعرض للتحرش أثناء زيارتها لمستشفى صالح عزيز سنة 2018، حيث عرض عليها أحد أعوان الصحة هناك أن تذهب إلى شقته، إذا كانت ترغب في الحصول على قسط من الراحة. » عندما رفضت، هددني بإتلاف ملفي الصحي، حتى لا يُعثر عليه بعد ذلك ».
جمعية رحمة لمرضى السرطان بتطاوين، رصدت كذلك، تواتر حالات من هذا النوع تتعرض لها المريضات أثناء تواجدهن بمراكز العلاج. فقد صرّح رئيسها، الطاهر صفيفير، بوجود حالة اغتصاب سُجّلت بمستشفى صالح عزيز لامرأة من تطاوين كانت أعلمت الجمعية بها قبل وفاتها نتيجة المرض.
عند مواجهتها بهذه الحوادث، عبّرت نجوى الطرابلسي، مديرة مستشفى صالح عزيز، عن تفاجئها واستيائها، مؤكدة أن هذه الحوادث لم تصادفها منذ توليها مسؤولية إدارة المستشفى منذ حوالي أربعة سنوات. لكنها دعت كل مريضة عاشت حادثة مماثلة إلى التبليغ عنها، حتى تتمكن الإدارة من محاسبة أي عون متورط في حوادث مماثلة، إداريا وقضائيا، مؤكدة أنه « لا مجال للتسامح مع مثل هكذا الانتهاكات ».
حكم المجتمع على المريضة « بالموت الرمزي »
مأساة النساء اللواتي يصبن بسرطان الثدي لا تتوقف عند المرض وإنما تشمل حروبا نفسية عادة ما تخوضها المريضات لوحدهن أمام مجتمع حكم عليهن بالموت الرمزي عوض أن يكون سندا لهن ليصارعن المرض الخبيث. تقول أحلام: « كل شيء اصطف ضدنا: المرض، الدولة والمجتمع، مما يزيد من معاناتنا النفسية، عدا المعاناة الجسدية ».
أرجعت أمال النغموشي، الباحثة في علم النفس الاجتماعي، المعاناة النفسية للمصابات بسرطان الثدي إلى « تمثل المجتمع لجسد المرأة الذي يجب أن يكون مثاليا ». وفي غياب الإحاطة النفسية اللازمة، « تمتنع بعض النساء حتى عن الذهاب للطبيب وتدخلن في نوع من العزلة والاكتئاب والخوف من الآخر، وهو ما يمثل عائقا كبيرا أمام الشفاء ». لذلك توصي النغموشي بضرورة توفير الإحاطة النفسية للمريضات، خاصة أن الدراسات أثبتت أنهن كلما تلقين دعما نفسيا، كلما أسهم ذلك في تخطي المرض ».
فؤاد غربالي، الباحث في علم الاجتماع، ندّد من جانبه بمنطق المجتمع في التعامل مع مرض سرطان الثدي على اعتبار أنه « عار وعيب وابتلاء يجب إخفائه ». فرغم أن مرض السرطان في النهاية هو مرض ككل الأمراض « إلا أن المجتمع مازال ينظر إليه على انه مرض استثنائي، خاصة إذا كانت له صلة بجسد المرأة الذي يُنظر إليه على أنه « عورة ». وبالتالي يدخل في منطق « العيب »، مما يفترض « السترة » أو « ثقافة استر ما ستر الله ». هذا ما يجعل التعامل مع المرأة قائما على أساس « الشفقة » و »الحكم عليها بالموت الرمزي ».
أزمة كورونا تفاقم معاناة مريضات سرطان الثدي
جائحة كورونا زادت في تعقيد وضع مريضات سرطان الثدي، وذلك نتيجة عدم قدرتهن على التنقل للقيام بحصص العلاج بالمستشفيات، بسبب الإجراءات الوقائية التي اتخذتها السلطات التونسية خوفا من انتشار الفيروس، خاصة إجراءات الحجر الصحي الشامل (21 مارس – 4 ماي 2020). هذا ما دفع بأغلب المريضات إلى ملازمة بيوتهن خشية من تفشي العدوى، مما عقّد حالتهن الصحية وتسبب حتى في وفاة بعضن.
في 31 أوت 2020، توفيت إحدى المصابات بسرطان الثدي، وهي امرأة أربعينية، أصيلة جهة تطاوين، جراء استفحال المرض وانتشاره بسبب تخلفها عن حصص العلاج وتأخير مواعيد مراجعة الطبيب بمستشفى صالح عزيز بالعاصمة. وكانت قد اضطرت، نتيجة إجراءات الحجر الصحي، إلى التوجه للقطاع الخاص في إحدى العيادات بولاية مدنين، لكن المرض كان قد تمكن من جسدها، ففارقت الحياة، حسبما أخبرنا به طبيبها.
(ع.ص) أربعينية أصيلة تطاوين أيضا، كانت أكثر حظا من المرأة المتوفاة، حيث لم تمنعها إجراءات الحجر الصحي من التنقل إلى تونس العاصمة لمتابعة العلاج في مستشفى صالح عزيز، رغم توقف النقل العمومي. لكن في رحلة العودة، تعرضت السيارة التي تقلها إلى حادث مرور، مما خلف لها إصابات بليغة استوجبت إقامتها في قسم الإنعاش لعدة أيام، كما يوضح ذلك زوجها محمد. هذا الأخير، أكّد لمعد التحقيق أن العائلة اضطرت لاستئجار سيارة لنقل زوجته إلى مستشفى صالح عزيز، بكلفة باهظة، حتى لا تفوّت جلستها العلاجية، فكانت النتيجة مضاعفة المأساة عبر الحادث الذي تعرضت له.
أزمة كورونا حرمت كذلك آمنة من القيام بحصص العلاج وتلقي الدواء لمدة تزيد عن 4 أشهر بسبب عدم تمكنها من التنقل إلى مستشفى صالح عزيز، وذلك أمام غلاء كلفة النقل. فعادة، لا تتجاوز كلفة السفر من تطاوين إلى تونس العاصمة ذهابا وإيابا، 80 دينارا، ولكنها ارتفعت بشكل مشط في فترة الحجر الصحي، لتتراوح ما بين 600 إلى 700 دينار وهي تعريفة فرضها المحتكرون من أصحاب سيارات « اللواج » وغيرهم من الذين استغلوا إيقاف النقل العمومي بين المدن.
ومع ذلك، قبلت أحلام بدفع هذا المبلغ كي لا تُفلّت جلستها العلاجية الدورية في مستشفى صالح عزيز. ولكنها عندما وصلت هناك، تم منعها من دخول المستشفى بحجة التدابير الوقائية المتبعة تفاديا لانتشار فيروس كورونا، فعادت أدراجها يشغل بالها الخوف من استفحال الورم.
هكذا تبدو معاناة مريضات سرطان الثدي في تطاوين، كمسلسل طويل من الأزمات لا ينتهي، أمام إهمال الدولة للقطاع الصحي في الجهات الداخلية وقسوة المجتمع المحافظ. رغم كل ذلك، اكتسبت ريم صلابة ورباطة جأش جعلتها تنصح كل النساء في نفس وضعها أن لا يستسلمن وأن يتذكرن أن « أهم شيء هو صحتهن » وأن » لا حق لأي شخص أن يحتقرهن أو يسيء معاملتهن ».
أنجز هذا التحقيق بالتعاون مع الوكالة الفرنسية لتطوير الإعلام (CFI) وتحت إشراف حنان زبيس
*رفضت المصابات اللواتي تم استجوابهن الإدلاء بأسمائهن خوفا من الوصم المجتمعي